بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 12 يوليو 2017

نصف قرن مع صحيح الإمام البخاري

نصف قرن مع صحيح الإمام البخاري

شيخ الحديث محمد يونس الجونفوري

أحد علماء الهند

بقلم / د. محمد رفيق الحسيني

"منذ وصول الإسلام إلي القارة الهنديَّة مبكراً، والإسلام في ازدياد والمسلمون في انتشار، وكان هذا الانتشار عن طريق تجَّار العرب وبسبب معاملتهم الإنسانيَّة والصَّادقة معهم، حيث أقبلت الطَّبقات المنبوذة والمستضعفة وعدَّة قبائل هنديَّة على اعتناق هذا الدِّين الَّذي يساوي بين الإنسان والإنسان، ويلغي تلك الطَّبقيَّة القبيحة الَّتي كانت متغلغلة في المجتمع الهندي، ويحارب العبوديَّة حيث لا قيمة للإنسان، وهكذا انتشر الإسلام في الهند بالحكمة والموعظة الحسنة ثم انتقل إلى المناطق المجاورة للهند .
والقارَّة الهنديَّة قد عُرفت بحكَّامها المسلمين، ومدارسها الإسلاميَّة، وبعلمائها الأفذاذ الَّذين نشروا العلم والدِّين إلى العالم، ولا زال العلماء يورِّثون هذا العلم إلى من بعدهم، طبقةً بعد طبقةٍ، وجيلًا بعد جيل حتَّى وصل إلى العالم العلَّامة الفقيه المحدِّث المصلح الشَّاه وليِّ الله أحمد بن عبدالرَّحيم الدَّهلوي، مجدِّد الدِّين والملَّة في تلك القارَّة الشَّاسعة، وترك من بعده جيلًا من العلماء المصلحين على رأسهم ابنه المحدِّث الفقيه الشَّاه عبدالعزيز الدِّهلوي، وأخذ مكانه من بعده سبطه الشَّاه محمَّد إسحاق الدِّهلوي، ثمَّ نشر العلم عنه إلى الآفاق تلميذه السَّيِّد محمَّد نذير حسين الدِّهلوي، ورحل إليه العرب والعجم، حتَّى أصبح مرجع المسندين، ومجمع الأسانيد، وممن انتظم في هذه السَّلسلة المباركة شيخنا المحدِّث الزَّاهد محمَّد يونس الجانفوري الهندي، والَّذي وافته المنيَّة صبيحة اليوم الثُّلاثاء الماضي، وحرصًا منَّا على إبقاء ذكر أهل الفضل والعلم بعد مماتهم، وتقييد تراجمهم من النِّسيان والضِّياع،  فإنَّنا نسعَى إلى نشر تراجمهم وذكر محاسنهم، ليترحَّم عليه الرَّاحم، ويستفيد منه الطَّالب، فأقول" :

اسمه ونسبه :

هو الشَّيخ المحدِّث المحقِّق الزَّاهد محمَّد يونس بن شَبِّير أحمد بن شِيْر علي الـجَـوَنْـفوري، السَّهَارَنْفُوري، الهندي، «شيخ الحديث» في «جامعة مظاهر العلوم» بسَهَارَنْفور .

مولده ونشأته:

ولد رحمه الله في قرية «جوكيا» ، مديرية جَونفور، صباح يوم الخامس عشر من شهر رجب سنة 1355هـ ، تربَّى في بيئة دينٍ وصلاحٍ وعبادةٍ، منذ صغره التحق بالكتاتيب وتعلَّم القراءة والكتابة ومبادئ العلوم، ثُمَّ انتقل إلى مدرسة «ضياء العلوم» بـ «ماني كلان»  بالقرب من قريته، وفيها تعلَّم اللُّغة الفارسيَّة، واللُّغة العربيَّة، وأخذ المواد الشَّرعيَّة، ومن الكتب الَّتي درسها في هذه المدرسة :  كالكافية لابن الحاجب، وشرح الملَّا عبدالرَّحمن الجامي على الكافية، ومختصر المعاني لسعد التَّفتازاني، ومقامات الحريري، وشرح الوقاية في الفقه الحنفي، ونور الأنوار في شرح المنار في أصول الفقه، وغير ذلك، وأكثر استفادته فيها من الشَّيخين ضياء الحق الفيض آبادي، وكان الجونفوري رحمه الله يثني عليه كثيرًا، والمربِّي عبدالحليم الجونفوري، رحم الله الجميع.
وفي شوال سنة 1373هـ التحق بـ «جامعة مظاهر العلوم» في سهَارَنْفُور، وتخرَّج منها بعد ثلاث سنوات، وممَّا درسه في هذه الجامعة : تفسير الجلالين، وتفسير البيضاوي، والهداية، والدُّر المختار في الفقه الحنفي ، ومشكاة المصابيح، وشرح الهداية في الحكمة للميبذي، وشرح الهداية للشِّيرازي، وسلم العلوم في المنطق لمحب الله البعاري، والشَّمس البازغة لملَّا محمود الجونفوري، وتحرير أصول الأقليدس للطُّوسي، وغير ذلك، وفيها لازم عدداً من الأكابر، فممن لازمهم واستفاج منهم :
شيخ الحديث محمَّد زكريا الكانْدِهْلوي، أخذ عنه قراءةً وسماعاً جميع صحيح البخاري، وبعض مقدِّمة صحيح مسلم، والنِّصف الأوَّل من سُنن أبي داود، والأوائل السُّنبليَّة، والرَّسائل الثَّلاث ، والنَّوادر من حديث سيِّد الأوائل والأواخر، والدُّر الثَّمين في مبشِّرات النَّبيِّ الأمين، كلُّها للإمام وليِّ الله الدَّهلوي، وغيرها، وأجاز له عامة .
https://nawaader.files.wordpress.com/2015/05/brief-biography-of-shaykhul-hadith-moulana-muhammad-zakariyya.pdf
ترجمة جليلة مفصلة لشيخ الحديث محمد زكريا الكاندهلوي ولا سيما في المسموعات ، بقلم الشيخ المحدث محمد يونس الجونفوري رحمهما الله تعالى .

2ـ العلَّامة محمَّد أسعد الله الرامْفُوري، أخذ عنه سُنن أبي داود إلَّا قدر صفحة من كتاب الصَّلاة ـ بسبب مرضه ـ، وأوَّل صحيح البخاري، وشرح معاني الآثار إلى نهاية كتاب النِّكاح، واستفاد منه كثيرًا، وأجاز له عامة .
3ـ الشَّيخ منظور أحمد السَّهارنفوري : قرأ عليه صحيح مسلم بفوت نحو 6 صفحات من أواخره ومن كتاب الصَّلاة، والموطَّأ برواية الشَّيباني، وأجاز له عامة.
4ـ الشَّيخ أمير أحمد بن عبد الغني الكاندهلوي، أخذ عنه قراءةً وسماعاً سُنن التِّرمذي والشَّمائل، وسُنن النَّسائي، وسُنن ابن ماجه، والموطَّأ برواية يحيى إلى كتاب الحجِّ، ومشكاة المصابيح، ونزهة النَّظر، وأجاز له عامة.
5ـ الشَّيخ المحدِّث فخر الدِّين أحمد المراد أبادي، حضر عليه ختم صحيح البخاري في دار العلوم بديوبند .
6ـ العلَّامة المفتي محمَّد حسن بن حامد الكنكوهي، سمع أوائل الكتب السِّتة، وأجازا له عامة، وغيرهم.

مسيرته العلمية :

في سنة 1381هـ عُيِّن مدرسًا في «جامعة مظاهر العلوم»، فدرَّس فيها عدَّة كتب في شتَّى العلوم، فمنها : شرح الوقاية ، وكتاب الهداية، كلاهما في الفقه الحنفي، وأصول الشَّاشي، ونور الأنوار، كلاهما في أصول الفقه، ومطالع الأنوار في الحكمة، ومختصر المعاني في البلاغة والمعاني، وفي الحديث : مشكاة المصابيح، وسُنن أبي داود، وسُنن النَّسائي، وسُنن ابن ماجه، وصحيح مسلم، والموطَّأ برواية الشَّيباني ويحيى اللَّيثي .
وفي سنة 1388هـ تمَّ تعيينه «شيخ الحديث» وهو أعلى منصب تدريسي في المدارس الهنديَّة، وهو سنِّ 33 سنة من عمره، وعهد إليه تدريس «صحيح الإمام البخاري»، فقام به أحسن قيام إلى أن توفَّاه الله تعالى، وقد أتمَّ تدريس صحيح البخاري خمسين دورة، سوَى ما قُرئ عليه في أسفاره في الحجاز وإنجلترا، وغيرهما 

وقد تخرَّج عليه الكثيرون من الطَّلاب، لاسيَّما في الحديث، واستجازه النَّاس من جميع البلدان  والأقطار.
مصنفاته :
ترك رحمه الله عدَّة رسائل وأبحاثٍ، بعضها بالعربيَّة والأخرى بالأورديَّة، منها : جزء المعراج، وجزء القراءة، وجزء رفع اليدين، وجزء المحراب، وإرشاد اللَّبيب إلى حديث التَّحبيب، ومقدِّمة سُنن أبي داود، ومقدِّمة مشكاة المصابيح، وتخريج أحاديث أصول الشَّاشي، وترجمة عبدالله بن الزُّبير، وإرشاد القاري إلى ما تكرَّر في البخاري بإسنادٍ واحدٍ، وجزء حياة الأنبياء، وجزء عصمة الأنبياء، وجزء تحقيق الأحاديث الَّتي وُسِمت بالوضع وهي في سُنن أبي داود، وجزء تحقيق الأحاديث الَّتي وُسِمت بالوضع وهي في جامع الترمذي، وجزء تحقيق الأحاديث الَّتي وُسِمت بالوضع وهي في سُنن النَّسائي، وجزء تحقيق الأحاديث الَّتي وُسِمت بالوضع وهي في سُنن ابن ماجه، وغيرها، وقد جمعها تلميذه الشَّيخ محمَّد أيوب السُّورتي، وطبع منها أربع مجلدات باسم «اليواقيت الغالية»، كما جمع تلاميذه تقريراته الكثيرة على الكتب، وشُرع في طباعة «نبراس الساري رياض البخاري»، طبع منه مجلد من أوَّل الكتاب، وفيه من التَّحقيقات والفوائد ما لعله لا يوجد في غيره من الشُّروح.

بينه وبـيـن شيخه الكاندهلوي :
كانت بينه وبين شيخه الشَّيخ محمَّد زكريا الكَانْدَهلوي مؤلِّف «أوجز المسالك إلى موطَّأ مالك» محبَّة أكيدة، وصلة قوية، حتَّى أنَّ الشَّيخ الكاندهلوي كان يرجع إلى تلميذه الجونفوري بعض الأحيان ويعتمد عليه لتحقيق مسألةٍ أو بحث مُعضلةٍ، لاسيِّما المتعلِّقة بالحديث، ولمَّا عزم الشَّيخ الكاندهلوي مجاورة المدينة المنوَّرة استخلف محلَّه الشَّيخ الجونفوري «شيخًا للحديث» و «مدرسًا لصحيح البخاري»  في «جامعة مظاهر العلوم»، وذلك رغم وجود بعض كبار الأساتذة وكبار أصحابه، ومن غريب ما يُذكر أنَّ الشَّيخ الكاندهلوي كتب له رسالة في 27 رجب 1387 وأمره أن يخفيها في طيَّات الكُتب، وألَّا يفتحها إلَّا بعد مرور أربعين سنة، حتَّى نسِي الشَّيخ الجونفوري أمرها، إلى أن عثر عليها شيخنا محمَّد شَبِّير من بين كتبه، وإذا فيها "بارك الله في حياتك، وجعلك مشتغلاً معنيًّا بالأمور الميمونة المباركة إلى فترة أطول، وحينما تبلغ السَّابعة والأربعين من تدريسك ستتقدَّم عليَّ وتسبقني".

رسالة الشيخ زكريا إلى الشيخ يونس يبشره بأن الله تعالى يستعمله لخدمة الحديث الشريف أكثر من شيخه 

وفاته :
توفي رحمه الله تعالى صبيحة اليوم الثُّلاثاء 17 من شهر شوال ( 16 بتقويم أم القرى بالهند ) سنة 1438هـ، الموافق 11 / يوليو / 2017م ، عن 83 سنة، قضاها في الدَّرس والتَّدريس، والإفادة والتَّأليف، وكانت جنازته مهيبة كبيرة مشهودة، ودفن في مقبرة المدرسة، رحمه الله رحمةً واسعةً، وألحقنا وإياه بالصالحين .  
رِثَاءٌ لشيخ المحدثين في الديار الهندية العلامة محمد يونس الجونفوري رحمه الله تعالى ، وأسكنه فسيح جناته !*
إنَّ السَّماءَ بَكتْ والأرض َقد صَرَخَتْ * كأنَّمَا   زُلزِلَتْ      بالمَوت    دُنيانَا 
كأسُ  المرارةِ   قد  زَادتْ  مرارتَنَا * وأغْدَقَ   الغَم ُّ   والأحزَانُ    وُديانًا
 لمَّا  سَرَى  نَعيُه  من   كُلِّ  ناحيةٍ * فاضَتْ عُيون ُ جَميعِ  النَّاسِ  طُغيانًا
شيخُ المشَائخ في عِلْم  الحديثِ  لَهُ * أسفارُه     شَيَّدتْ    للعلم     بُنيانًا
أهلُ الحديث  يَرَون  الشَّيخ  َ تاجَهُمُ * على    رُؤوسهِمُ     نُورًا   وعرفانًا
كم من نفوسٍ  أنارتْ  من مَجالسهِ * زادتهمُ   بالهُدى    تقوَى   وإيمانًا 
له  مَعارفُ  في  بحر  الحديث  بها * مضَى   يُعلِّم    جيلًا   فاقَ    أقرانًا 
علمُ الحديث  يُبَاهي  باسمه   دهرًا * فأوقَدتْ   رُوحُه     بالحَقِّ     تِبيَانًا
فلا   ورَبِّك    لَم     تَفتُرْ    عزيمتُهُ * فشرحُه   للبُخاري    امْتَدَّ    أزمانًا
يا مَن  صبَبتَ كُؤوسَ العلم  طافحةً * بفيض    عِلمك   قد أترَعتَ   أذهانًا
أفنيتَ عُمرَكَ نصفَ القَرْن  مُصطَبرًا * أعددْتَ   للعلم    رُوَّادًا   و فُرسَانًا
قضَيتَ   سِتِّينَ  عامًا   تَجتَني  ثمَرًا * من   البُخاري ْ وقد   نَوَّرت َ  أكوانًا
صَلَّتْ  عليه   نُفوسٌ   في    جَنازَته * في  مَوكِبٍ   لَجِبٍ   قد فاقَ  مليُونًا
ناسٌ   قد  انفجرَتْ  دمْعًا   عيونُهمُ * بمشهدٍ    صَخِبٍ     قد  سَدَّ    آذانًا
تدفَّقُوا  من  دُروبٍ   ضاقَ  مَنفذُها * برَكبهمْ    سَيَّرُوا    أرضًا   و مَيدانًا
يا نَفسُ إن كثُرتْ  أطمَاعُها  وطَغتْ * فلا تغُرِّي   فإنَّ   المَوتَ    يَغشَانَا
النَّفسُ  مَهْما  تطُلْ  فالمَوتَ  ذائقةٌ * إن شِئتَ  فاقرأْ   كلَامَ   اللهِ   قُرآنًا
يا نفسَ   يُونُسَ   قد جرَّعتِنا   وَجَعًا * مُبرِّحًا   لَا يُطيقُ    النَّاسُ    سُلوانًا 
يا نفسَ  يونس َ نرجُو  اللهَ   مغفرةً  * تُسقيكِ   من  غَيمه  فيضًا  ورضوانًا 
إلَاهَنا      أنتَ      غَفَّارٌ    ورَحمَانُ * فاسْكُبْ  عَلَى  قَبره  رَوحًا  ورَيْحَانًا

✍ محمد أرشد بن عبدالغفور الندوى
يوم الأربعاء : 18من شوال
1438/10/18ھ الموافق 2017/7/12م

مدينة البعوث الإسلامية ، جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة.

في رثاءِ شيخنا المحدث محمد يونس الجونفوري رحمه الله

يا عيوني بأوفرِ الدَّمعِ فُورِي * لا تَشحِّي بدمعِكِ الموفورِ
لم تعدْ تُحسنُ القصيدَ حروفي* لم يُغرِّد في غُصنِها عصفورِي
واكتبي بالدمع شعرًا حزينًا*   في رثاء المحدِّث "الجنفورِي"
شيخ أهلِ الحديثِ في الهندِ طرًّا* والإمامُ النصيرُ للمأثورِ
عاشَ للعلمِ والحديثِ فبُشرا* اهُ وطوبى له بدارِ الحبورِ
في رياضٍ ونضرةٍ وحريرٍ * وقصورٍ تَزينُها  كلُّ حُورِ
رحمةُ الله كلَّ حينٍ تغشَّى* روحَهُ في رضاءِ ربٍّ غفورِ
إنَّ أهلَ الحديثِ وُرَّاثُ (طه)* همْ دليلي وهمْ ضيائي ونوري
  حبُّهمْ في الفؤاد باقٍ كنَقشٍ* نقشتهُ يدُ الهدى محفورِ
  
شعر/ أحمد بن عباس المساح المعمري






تنبيه: هذه صورة لأحد المشايخ ينظر إلى جنازة الشيخ الجونفوري رحمه الله

مصادر الترجمة :
1ـ التَّأنس بذكر أسانيد الشَّيخ محمَّد يونس : مطبوع بآخر اليواقيت الغالية المجلد الثالث .
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/attachment.php?attachmentid=87555&d=1315989713
2ـ  الفرائد في عوالي الأسانيد وغوالي الفوائد: تخريج د. محمد أكرم الندوي .
3ـ مقالة شيخنا محمَّد زياد التكلة .قدِّمة كتاب الإرشاد إلى مهمات الإسناد للمحدِّث وليُّ الله الدَّهلوي، طبع بتحقيقي .
http://www.alukah.net/culture/0/118153/
4ـ وثائق أخرى وصلتني من الشيخ مفتي محمد شبير ، وسيد محمد سفيان الكنكوهي.
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/attachment.php?attachmentid=87556&d=1315992760